لويس عوض.. ومعركة أصل العرب ولغتهم

  علوم   منذ 5 سنوات   شارك:

منذ أربعين عامًا ثارت زوبعةٌ حول كتاب (مقدمة في فقه اللغة العربية) للدكتور لويس عوض. طالَبَ الأزهر بمصادرته، ونَظَرَ القضاءُ الدعوى، وانتهت القضيّة بتبرئة ساحة (عوض) من التُّهم المنسوبة إلى كتابِه، تلك التي تدورُ حولَ التشكيك في العقيدة الإسلامية والطَّعن في إعجاز القرآن.

وقد نذرَ (عوض) كتابَه للدفاع عن نظريةٍ مفادُها أنّ العربيةَ وعائلتها اللغوية المسمّاةَ بالسّاميّة ما هي إلا فرعٌ من شجرة اللغات المُشار إليها بالهندوأوربية، وأنّ استيطان العرب لِشِبهِ الجزيرةِ المنسوبة إليهم لم يتجاوز ألفًا وخمسمائةَ عامٍ قبل الميلاد على أقصى تقدير.

واحتجَّ لإثبات هذه النظريةِ بأنّه لا ذِكرَ للعرَب في خرائط ووثائق العالَم القديم إلا في الألف الأولى قبل الميلاد، وأنّ تدوينَ العربية لم يتجاوز القرن الثاني قبل الميلاد.

وحَشَدَ فيما يَربو على أربعمائةِ صفحةٍ تحليلاتِه لعشرات المفردات العربية للوصولِ بها إلى أُصولٍ مشتركةٍ افتراضيّةٍ مع اللغات الأوروبيّة.

لكنّ ما أثارَ حفيظةَ مُنتقِدِيه أكثرَ من غيرِه يمكن تلخيصُه في الآتي:

 1- إثارته لمشكلة القول بقِدَم القرآنِ عند أهل السُّنّة: حيث نذر لها الفصل الثاني الذي يقول فيه: "بهذا وَضعَت المعتزلةُ النقيضَ لاجتهادات فقهاء الإسلام الذين اجتهدوا أن يضعوا نظريةَ الوحيِ في الإسلام على غرارِ نظرية اللوجوس في اليونانية المسيحية، وهي "كلمة الله" المرادفة "لعقل الله" أو "للروح القدس" أو نظرية Verbum وهي كلمة الله المرادفة للفعل "الإلهي" أو "الفيات" Fiat أو الخلق الأول بكلمة "كن فيكون"، فكان الكون، وهي في نهاية الأمر صورة من صور اللوجوس المرادف لعبارة "روح الله وكلمته".

والمهم أنّ هذا الكلام كان مبررًا لاتهام (عوض) بالقول بأنّ فقهاء الإسلام قالوا بإلهين اثنين.

2- زَعمه أنّ فريقًا من المعتزلة قال بأنّ الصِّرفةَ هي أساسُ إعجاز القرآن، أي أنّ مَناطَ الإعجاز في أنّ الله قد صرفَ قُلوبَ العرب وقتَ البعثةِ عن الإتيان بمِثل القرآنِ مع قُدرتِهم عليه.

3- قوله الذي اعتبرَه الدكتور (البدراوي زهران) في كتابه (دحض مُفتَرَياتٍ ضدَّ إعجاز القرآن ولُغتِه وأباطيلَ أخرى اختلقَها الصليبيُّ المستغرِب الدكتور لويس عوض) مفتاحًا لفهم دوافعه لكتابة ذلك الكتاب: "ليست للُّغة العربيةِ ولا للعرب حضارةٌ ولا عَراقةٌ، ومَن يقل غير ذلك فهو ينسب إلى العرب ولغتهم عراقةً ليست لهم ولا لها بين الحضارات القديمة."

4- رجوعه باسم الله (الصَّمَد) إلى معنى الثالوث المسيحيّ من خلال ربطِه صوتيًّا بكلمة (خمت) المصرية التي تعني (ثلاثة)، حيث يقولُ إنّ الاسمَ الواردَ في سورة الإخلاص (الصمَديّة) "كلمة محيرة لأنها مادة جامدة لم تشتق من فعلٍ ولم يُشتقّ منها فعل، ولا صلة لها بالهومونيم (صَمَدَ يَصمُدُ)." 

المهم أنّ كثيرين قد تصدَّوا لمزاعم الدكتور لويس، ومنهم الدكتور (زهران) أستاذ فقه اللغة بجامعَتَي أسيوط وأُمّ القُرى في كتابه المذكور آنِفًا، والدكتور عبد الغفّار حامد هلال في كتابه (أصل العرب ولغتهم بين الحقائق والأباطيل).

وقد تفاوت حظّ الكتابَين من الموضوعية، فبينما سادَت النزعة الخطابية كتابَ الدكتور (زهران) – حيث يكرر أسئلتَه الاستنكاريّة، والتصريحَ بأنه آلَى على نفسِه أن يلتزم المنهج العلميّ، فضلاً عن العَدائيّة الصارخة في عنوان كتابه المذكور – جاء كتابُ الدكتور (هلال) أكثرَ اتّزانًا وألزمَ للهدوء في تفنيد مزاعِم الكتاب، حتى إنه فنَّد ذاتَ النهج الفونيطيقيّ الذي التزمَه (عوض) في مقارنة المفردات العربية بمفردات اللغات الهندوأوروبية.

بَيدَ أنّ هذا المقال لا يهدُف إلى تلخيص ما جاء في الكتُب الثلاثة، فهي غايةٌ مستحيلةٌ بالنظر إلى مساحته، وإنما إلى تقديم ملاحَظاتٍ سريعةٍ نوجزها في سِتِّ نقاط:

* القرآنُ بين القِدَم والخَلق:

لَفَتَ كتابُ الدكتور (هلال) أنظارَنا إلى أنّ الخلافَ السُّنّيَّ المعتزليَّ لم يكن إلا خلافًا لفظيًّا، فالفريقان مؤمنان ضِمنًا بأنّ الكلام النفسيَّ لله قديمٌ، وأما الألفاظُ فلا خلافَ في حدوثِها، لكنّ المعتزلة اعتقدوا أنّ مفهوم (الكلام) ينصرف إلى صورة الكلام من حيث هو حروفٌ وألفاظٌ، فقطعوا بخَلق القرآن.

وبغضّ النظر عن الطبيعة الدمويّة التي طبَعت محنة خلق القرآن، ففي رأيي المتواضِع أنّ مفهوم قِدَم القرآن من حيثُ هو كلامٌ نفسيٌّ يمكن التعبير عنه بالصيغة الأرسطيّة (الموجود بالقُوّة)، وهي مرتبةٌ في الوجود دُونَ الوجودِ بالفعل. أي أنّ وجود القرآن في اللوح المحفوظِ أزلاً – حسبَ التصوُّر الإسلامي – هو تعبيرٌ عن وجودِه بالقوّة، أمّا نزولُه في الألفاظ التي نعرفُها فهو إبراءُ الله له ليُوجَدَ بالفعل. وهو مفهومٌ يتجاوَبُ ومعنى القَدَر، من حيث هو معرفةُ الله الأزليّة بما كان وما سيكون.

* رسائلُ لويس عوض الضِّمنيّة:

تسرَّعَ مُنتَقِدو (عوض) في وصمِه بالتهجُّم على الإسلام في مَواضِع محددة. فحين يقولُ إنّ الشيعةَ والخوارِجَ رغمَ خلافاتهما مَثَّلا معًا ثورةً على تسلُّط العرب على غيرهم من الشعوب باسمِ الإسلام، يُسرِع (زهران) إلى اتهامِه بأنه يرمي الإسلامَ بأنه جاءَ ليضمنَ للعربِ هذا التسلُّط، وحين يقولُ (عوض) إنّ المعتزلةَ قد فَطِنوا إلى أن القولَ بقِدَم القرآنِ يفتح البابَ للعودة إلى قِدَم الكلمة كما في المسيحية، وبالتالي إلى ظهور أقنومَين بشكلٍ ضمنيٍّ هما الله وكلمتُه، يسرع (زهران) إلى القولِ بأنّ (عوض) يقولُ إنّ فقهاء السُّنّةِ يقولون بإلهين اثنين.

 

وفي تقديري أنّ (عوض) لم يأتِ بشيءٍ من عنده، وإنما هو تصوُّرُ المعتزلة الذين ذهب بهم حماسُهم للدفاع عن الوحدانيّة إلى نفي أزليّة القرآن. 

لكنّ هذا لا ينفي أننا نلمحُ رسائلَ ضمنيّةً في خِطابِ (عوض)، فيها شيءٌ من المُكايَدَة إن جاز التعبير. ففي إلحاحه على الربط بين اسم (الحِجاز) وكلمتَي (حيكا خاسو) المصريتين المُشار بهما إلى الهكسوس/ مُلوك الرُّعاة، وتكراره لحكاية مُطاردة المصريين لجحافل الهكسوس حتى الساحل الشرقي للبحر الأحمر، وربطه بين كلمة (خاسو) وكلمة (الغزو) العربية المرتبطة بالإسلام، وتكراره أنّ الهكسوس مثَّلُوا موجةً مهمةً من موجات الهجرة إلى شبه الجزيرة وأسهموا بقدرٍ كبيرٍ في تكوين الجنس العربي، في كُلّ ذلك تُطِلُّ على استحياءٍ رسالةٌ مفادُها أنّ العرَبَ رُعاةٌ مُغيرُون، نجحوا في استعمارِ مصر، ثم طُرِدوا شرَّ طردةٍ، ولم تكُن عودتُهم باسم الإسلام إلا تكرارًا للغزو القديم. كذلك فإنّ تحليله لكلمة (صَمَد) على النحو المذكور يرسلُ رسالةً مفادُها أنّ القرآنَ لم يأتٍ بجديدٍ، وأنه في الحقيقة يكرّس اللاهوت المسيحيّ، لكنّ المُسلمين لجهلهم بأصولِه لا يعلمون ذلك.

هذا على رغم ما لا ننكرُه من كلامٍ عظيمٍ لـ(عوض) بشأن الوحي القرآني: "ولعلَّ كثرةَ التفاعلات ولاسيّما في لغة قريشٍ هي التي أنضجت اللغة العربية إنضاجًا عظيمًا وأكسَبَتها مرونةً كافيةً وخصوبةً مما أهّلها لتكون وعاءً لوحيٍ عظيمٍ في عصر الرسول...إلخ."

* التخريجات البعيدة:

لَمْ يَألُ (عوض) جهدًا في اللجوء إلى قانونَي جْرِمْ وفِرنر Grimm's Laws Verner's & ومبدأ الميتاتيز أو القَلب Metathesis لينشئ علاقاتٍ بين مفرداتٍ عربيةٍ وأخرى هندية أوربية، ويصل من خلالِها إلى نتائجَ أَدخَلَ في بند التخريج البعيد، ومثالُ ذلك ربطه بين مقطع Hus في كلمة Husband بمعنى زَوج، وكلمة (جوز) المصرية المعاصِرة، فيجعلُ من المصرية رجوعًا إلى الطبيعة الأولى للكلمة.

وتواتُر هذه التخريجات البعيدة يُشيرُ إلى أنّه انكبّ على عملِه وهو مسكونٌ بهاجسٍ يُريدُ إثباتَه، فهو يسلُك من أجلِه أوعرَ الطرُق، ويصل إلى نتائج مدهشةٍ، لكنها تظَلُّ أبعدَ ما تكونُ عن اليقين! 
   
* المغالطات التاريخية: 

بخلافِ ما تناولَه كتابا زهران وهلال، هناك الإشارةُ إلى وُرود اسم مدينة الطائف في أقدم خارطةٍ لشبه الجزيرة العربية – تلك التي رسمَها كلاوديوس بطليموس في القرن الثاني الميلادي – باسم (طيبة Thebae)، واستنتاجُه أنه الاسمُ الذي أطلقه المصريون على ذلك المكان خلال مطاردتهم الهكسوسَ، مستعيرينَه من اسم (طيبة) عاصمة مصر آنذاك.

ونسي (عوض) أنّ اسم الأقصر المصري القديم كان (وا سِت Waset) وأنّ اسم (طيبة) هو الاسم اليوناني الذي لم تعرفه مصر في الأغلب إلا مع بداية اتصالها الكثيف باليونان، وهو شيءٌ لم يحدث فيما نعلمُ قبل الأسرة السادسة والعشرين، أي في المائة السابعة فقط قبل الميلاد، بينما كان طردُ الهكسوس على يد أحمس الأول حوالي عام 1570 ق.م! ونحن لا ننكر الصّلة الفونيطيقية بين اسمَي (الطائف) و(طيباي/ طيبة)، لكنّ ربطهما بطرد الهكسوس يقتضي أن يكون المصريون قد سمّوا تلك المدينةَ أوّلاً (وا سِت) باسمِ عاصمتِهم، ثم اقتفى اليونانيون آثار المصريين هناك خطوةً خطوةً، فسمّوها (طيبة) كما سمّوا (وا سِت) المصرية باسم (طيبة) اليونانية، وهو تخريجٌ بعيدٌ هو الآخَر.

* الإسلامُ يجُبُّ ما قبلَه:

فيما يتعلّق بتفسير اسم الله (الصَّمَد)، أثبتَ الدكتور (هلال) في كتابه أن المعاجِم العربيةَ ذكرَت اشتقاقَ الاسم من جذر (ص م د) الذي منه الفعلُ صَمَدَ يَصمُدُ، وأنّ مَدار التفاسير على أنّ معناها (السيّد المقصودُ وحده في الحوائج)، إلاّ أني سأوافق د.عوض جَدَلاً على اقتراحِه أنّ الاسم ينتهي في نسبِه فيلولوجيًّا إلى (خمت) المصرية القديمة بمعنى (ثلاثة).



السابق

المغول والإمبراطور أكبر: نشأة الإسلام في الهند

التالي

النظام الغذائي طويل العمر: وجبتين من الفاكهة وثلاث من الخضروات هي التركيبة "الصحيحة" لحياة أطول


أخبار متعلّقة

ما رأيك؟

قواعد المشاركة

نريدك أن تكون مصدرًا لزملائك من القراء ونأمل أن تستخدم قسم التعليقات لإجراء ذلك. لقد صممناها لرفع وتوسيع الاستجابات الأكثر ذكاءً وإدانةً ، وتقليل أو إخفاء الأسوأ. هذه هي قواعد الطريق:

 

ابقى في صلب الموضوع

عند تقديم تعليق ، لا تخرج عن الموضوع. لا تعلق على المعلقين الآخرين أو معتقداتهم السياسية المفترضة. ناقش مزايا القصة نفسها. لا تنشر تومي. هذا ليس المكان المناسب لصق فصل من رسالتك (أو أي شخص آخر) أو ورقة بيضاء.
أظهر الإحترام.
نحن نشجع ونقدر النقاش العميق. ما عليك سوى التأكد من أنه عندما لا تتفق مع فرضية القصة أو أي معلق آخر ، فإنك تفعل ذلك بطريقة محترمة ومهذبة.

 

كن مهذبا وحافظ على نظافته

نحن نغطي التكنولوجيات الجديدة موقعنا ليس منفذاً للفظاظة. نحن لا نتسامح مع الإهانات الشخصية ، بما في ذلك استدعاء الأسماء أو العنصرية أو التمييز الجنسي أو الكلام الذي يحض على الكراهية أو الفحش. هذا يعني أنه لا توجد أي ملاحظات بذيئة أو مسيئة أو مضايقة أو تنمر. إذا لم تكن مدنيًا ومهذبًا ، فلا تنشره.


تجاهل المتصيدون

أفضل رد على القزم - شخص ما يتكرر عدائيًا واستفزازًا - ليس ردًا. من فضلك لا تشجع السلوك السيئ عن طريق الاستجابة ؛ انها لا تخدم سوى لسرور المتصيدون والبيض عليها. إذا كان هناك شخص ما يسيء استخدام موضوع مناقشة ، فأبلغ عن أي تعليقات مسيئة ، وسنتناول الموقف.

 

كن مسؤولاً وأصيلاً

انشر آرائك فقط بكلماتك الخاصة. أنت مسؤول عن المحتوى الذي تنشره.

 

لا تنشر رسائل غير مرغوب فيها أو إعلانات

إذا لم يكن لديك عقد إعلان معنا ، فإن هذا الموقع الإلكتروني ليس عبارة عن لوحة إعلانات لنشاطك التجاري. لا تنشر محتوى غير مرغوب فيه أو محتوى ترويجي ذاتي أو حملات إعلانية. لا ضغط أو تجنيد أو استجداء.

 

نقرأ التعليقات

على الرغم من أن مجالس مناقشاتنا لا تخضع للإشراف الرسمي ، إلا أننا نولي اهتمامًا وثيقًا بها. نحتفظ بالحق في تعديل أو حذف التعليقات التي لا تلبي معاييرنا.

 

نحن نحظر الأعضاء الفاضحين

إنه ليس شيئًا نتمتع به. ولكن عند الضرورة ، سنحظر الأعضاء الذين لا يلتزمون بهذه الإرشادات.

 

شكرا على اتباع هذه المبادئ التوجيهية.